الثلاثاء، 19 يناير 2016

الجني والحرامية

مع التفنن عبر السنين بإختيار الناس لأسماء بناتهم، تساءلت قبل فترة: لماذا لم يسمي أي أحد إبنته: كهرمانة؟
نتغزل بمدينتنا وتأريخها الإسطوري ومعالمها الفنية، ولكننا لم نفكر بتسمية إحدى بناتنا على إسم كهرمانة الجميلة. (وعود ندلعهة: كوكو) 
وكانت الإجابة المقترحة لأحد الأصدقاء أن السبب هو كونه إسم لجارية مملوكة !
واليوم أفكر بسبب إعجاب الآخرين بمدينتنا، بتراثنا وبنسيجنا الإجتماعي (بحالاتهم السابقة طبعاً وحتى الحالية في بعض الأحيان)، بينما لم نستطع نحن المحافظة على التواصل مع كل تلك القيم الإيجابية التي ورثناها من الماضي، ليصبح حالنا سلبياً نحاول التخلص منه بأقرب فرصة ممكنة بالهجرة الى الخارج. 
هل نحن بحاجة للأمثلة؟
كتبت سابقاً عن سيرل بورتر، الضابط في الفريق الهندسي للجيش الإنكليزي، كان يقول لأبنائه: أنتم لا تعرفون قيمة هذا البلد، فالعراق خير بلدان الدنيا، ولا أبدله ببريطانيا البتة!
كَابور، المهندس المعماري الكندي، صديق أمين العاصمة السابق، (والعهدة على الراوي!) وبعد أن ترك زوجته في المطار وهي تتوسل به لتثنيه عن زيارة بغداد قال بعد أن (إفتر بيهة): (بودي أعيش هنا ... وكَال لزوجته: تعاي شوفي الجمال، الفضاءات والناس) ... وحلف والله العظيم يروح يجيب زوجته ويرجع لبغداد! (بس الظاهر مكدر يقنعهة بالجيّة لو كَلتلة ترة أطلكك وأخذ نص فلوسك!)
وأخيراً من رواد العمارة العالمية، الأمريكي فرانك لويد رايت ... نقرأ في كتاب (جني بغداد) للإستاذ موفق الطائي، وبعد أن تم دعوة رايت من قبل الملك فيصل الثاني لتخطيط وتصميم مركز ثقافي على ضفاف دجلة في بغداد قال في عيد ميلاده التسعين: إنها أجمل هدية عيد ميلاد!


ما جعلني أفتتح النص بكهرمانة، هو وصف رايت لنفسه بقارئ لقصص ألف ليلة وليلة منذ كان صبياً، ويرى نفسه أحد أتباع هارون الرشيد ... ثم يؤكد الكاتب أن مصادر رايت المعرفية تعتمد على رؤية إسطورية للحضارة في العراق متأتية من قصص ألف ليلة وليلة، وهو حتى كان يظن أن هارون الرشيد هو من أنشأ مدينة بغداد وليس أبو جعفر المنصور.
وهنا بالتحديد أعاني من مأزق (قول ما قلته سابقاً)، وهو ما نأخذه على بعض الباحثين والمعماريين، إنهم يصلون الى القناعة بسبب معين أو ظاهرة أو معادلة تفسيرية، ويرجعون أليها أغلب المواضيع الجديدة المطروحة للنقاش، حتى قد نشعر أن أحاديثهم متشابهة وقد تصيبنا بالملل. الأمر مشابه مثلاً لما يعانيه الشباب اليوم مع الأهل، أي شكوى من قبل الشاب عن علة جسدية أو مشكلة حياتية تكون إجابتهم: كلة من ورة الأنترنت! فيما يخصني مثلاً، فإن أي نقاش مع أمي حول جميع ما يمر به العراق من (خربطة) يكون جوابها: طبعاً لأن ممربين نفسنة، أو أن الشخص محل النقاش، ممربي نفسه.
هل هم مخطئون؟ الباحثون، المعماريون، الأهل، أمي ؟
وهنا يأتي دور المأزق الثاني، وهو أي حديث عن قضايا العمارة هذه الأيام، لا يمكن أن ينفصل عن قضايا السياسة وسوء الإدارة والفساد والمظاهر المجتمعية السلبية السائدة، وقد يكون هذا مأزق العمارة في كل الأوقات!

العامل المشترك بين المأزقين السابقين، هو الطمع وأعلى مستوياته، الجشع.
منذ أيام (الأربعين حرامي)، و(قاسم) شقيق علي بابا الذي نسي كلمة (سمسم) لإنه إنبهر بذهب وجواهر المغارة وحاول أن يأخذ أكبر قدر ممكن، على عكس علي بابا الذي قنع بما ملئ به جيوب سرواله. ثم الجانب السلبي من شبكة الأنترنت وليس المعرفي الإيجابي الذي يعتبر الوسيلة الأفضل لفتح العقول المغلقة إذا أحسنت إستخدامه .. وأخيراً قول أمي عن عدم تربية النفس. وهي تقصد أن لا يستطيع الإنسان مقاومة رغبة الحصول على المال بأي طريقة ممكنة. الإنتماء لجهة تضمن له الحصول على منصب وراتب كبير أو العمل في شركة تعود لنفس تلك الجهة ومشاركتهم بــ(اللغف) أو تصميم مشروع لإنسان معروف بأنه يسرق أموال الناس.
ويجب أن أعترف بأنني شاركت بالنوع الأخير، وأبرر لنفسي وقد لا يكون مقبولاً، إن الحالة الأولى في بداية التغيير ولم تكن الشخصيات مكشوفة على حقيقتها السيئة، والحالة الثانية لم أكن أعرف الزبون الحقيقي والعمل تم عن طريق شخص آخر.

أكثر ما شد إنتباهي في كتاب (جني بغداد)، كلمة فرانك لويد رايت في جمعية المهندسين العراقية وما تتضمنه من ضرورة نبذ السمة المادية والتجارية الأنانية والإعتماد على المبادئ الأصيلة للعمارة، ضرورة الإهتمام بالجانب الروحي المحلي وتشييد المباني التي ترتبط بالإنسان والبيئة التي يعيشها، ويقول: حذار من المبنى الممسوخ الذي سوف يشوه حضارتكم!
ولقد وقعنا في الفخ ... إن جميع ما تعانيه العمارة اليوم هو ناتج عن الطمع والجشع ... طمع وجشع المسؤولين عن إدارة الدولة، طمع وجشع أرباب العمل، طمع وجشع المعماريين ...
أقتبس من خطاب رايت عن تقدّم الحضارة العراقية: هنالك خطر كبير أن هذا التقدم قد يُدمر من قبل السمة التجارية والمادية التي تغفل العامل الروحي، مركز الإلهام والجمال وفي النهاية: الجمال والسعادة هما أهداف الحياة.
وأتخيل أن أحد الحاضرين تمتم قائلاً: صدك ... الفلوس وصخ دنيا ... والجفن مابي جيوب !

ولكن هل هذا كلام منطقي ؟ هل يقتنع أحد الشباب اليوم أن الفلوس وصخ دنيا؟

هل يعني أن نعيش فقراء لأننا لا نرغب بالمشاركة في أي عمل غير قانوني ومشبوه أو قانوني ولكنه يدمر كل ما ندرسه ونفتخر به من قيم العمارة المحلية؟  نعيش فقراء ونحترم ما تمتلكه مدينتنا من خصائص معمارية ملازمة لها، ولا نجري وراء من (هم ودم) كما يقول غسان من أجل شراء هاتف ذكي أو سيارة بموديل جديد أو قطعة أرض غير مرخصة.


لا أعتقد أن كلمة فقراء مناسبة، ولكن من (المفترض) أن نتقبل المستوى المادي الذي يضمن لنا عدم التقلب في القبر عندما يقول أحدهم في المستقبل: الله يلعن كلمن شارك بتهديم العراق!









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق