قراءة لسواقي القلوب
إن تقرأ رواية فأنت ترى العالم بعيون الآخرين.
وهذا هو بالتحديد ما يبعدنا على ضيق الأفق والتفكير، عدم
الإحساس بالآخرين والتمسك برأي واحد نعتقد بصحته دون غيره، قد لا تكون الرواية المقروءة
مرتبطة ظاهرياً بإختصاصنا، ولكنها من ناحية خفية تصب في ممارسة العمارة، فهي تتحدث
عن الإنسان، رغباته وأحلامه، عن المجتمع، أفكاره وتقاليده وعن الأوطان رموزها
وسلبياتها. يمتزج كل ذلك ليساندنا في إنتاج العمارة، عمارة واسعة الأفق تحترم
الإنسان، تتفاعل مع المجتمع وترتبط بالوطن.
سواقي القلوب لـ (إنعام كجه جي) ... (تشيلك من العراق
وتشمرك بفرنسا) لتنظر الى العراق مرة أخرى من هناك.
في بداياتها تضعك في وسط الموضوع الأكثر تعقيداً حالياً
وحتى سابقاً، العلاقة بين عراقيي الداخل والخارج.
على الحدود يقول ضابط الجوازات للعائد من الخارج: (يعني أنك أمضيت في الخارج، يا أستاذ، أحلى سنوات شبابك،
التي هي أتعس سنوات شبابنا...)
ليخاطب العائد صديقه زمزم: (كيف أجعله يفهم، يازمزم، أن الأعمار يمكن أن تتبدد
هدراً أيضاً في أكثر بلدان الدنيا جمالاً، وأن الأعمار إذ تتبدد في بلد غريب، بلا
حصاد يُذكر، فإن الأمر يصبح أكثر فداحة).
لن نعود للحكم على هذه الثنائية (الداخل-الخارج) بنفس
الطريقة بعد قراءة الرواية وروايات أخرى، فلكل منا مأزقه الخاص وهدفه الخاص و(رجال
الي يعبي بالسكلة ركَي).
يتسآءل زمزم وهو في حديقة اللوكسمبورغ: (لماذا يتبادل
الناس الحب هنا، تحت شمس النهار، وتحجل الحمائم بين أقدام الأطفال بأمان، وتنطلق
قطارات المترو في مواعيدها الى الضواحي الخضراء، وتذهب العجائز لتسريح شعورهن عند
الكوافير، في حين لا تكف الأحداث عن الغليان في أوطاننا الأبية الغارقة في حروب
تطحن البشر؟).
ومن نظرة للتأريخ وحتى الحاضر، فأن الجهات الحاكمة هناك (حيث الحب والأمان والجمال) هي السبب في تغذية حروبنا الطاحنة وهذا لا ينفي طبعا تقصيرنا وإنجرارنا وراء مخططاتهم.
وعن الرموز العراقية في الرواية، ألتقط رمزاً شهياً ...
سمك الزبيدي ...
فبعد أن يعود بأربع سمكات بيضاوات عريضات إشتراهن من حوض
بقالة الإخوة تانغ، (رفعت الخاتون كفها الى فمها وهلهلت مثل من تلتقي بعزيز طال
غيابه. ولما جاء زمزم شم رائحة السمك المقلي وهو بعد في أسفل العمارة. وعندما صعد
وشاهد السمكات ممددات بدلال في الصينية، رقص وهو يدق إصبعتين، لقد تعرف على
الزبيدي حالما رآه، وكأنه فرد من عشيرته تربطه به وشائج الرحم، فكيف يكون الجنون
العراقي إن لم يكن هكذا؟)
وعندما سنستخدم نحن المعماريين السمك كرمز في مشاريعنا
مستقبلاً، يجب أن يكون بشكل ونسب سمك الزبيدي وليس أي نوع آخر، لننتج عمارة عراقية
من لحمنا ودمنا.
نكتشف من الرواية أننا كمجتمع إستطعنا تجاوز بعض
سلبياتنا السابقة وهذا مايدعو للأمل، فعند إكتشاف أن الخاتون العراقية هي كونتسية
فرنسية أيضاً يقول البطل (لو جيء لي بمصباح علاء الدين في ذلك الصباح الغائم،
المصباح الأصلي لا المصنوع في تايوان، وقيل لي أن الخاتون فركته وطلع لها المارد
وقال لها: شبيك لبيك، وأسبغ عليها اللقب النبيل، في غمضة عين، لأطلقت من بين شفتيّ
عفطة كرادية تصل أصداؤها الى الرصيف المقابل). والواقع أنا أسكن الكرادة منذ عام
2002 ولم أسمع تلك العفطة الشهيرة لمرة واحدة.
لا أعرف لماذا إختفت؟ هل (راحت مودتها)؟ كنت أسمعها
وأعرف المناسبات التي تستخدم بها عندما كنت طفلاَ، وعندما قرأت عن دعبول البلام
وهو قد يكون صاحب أشهر عفطة (عفواً) في بغداد أو الكرخ، أصبحت أقول عندما أستمع
لشخص يستحقها: وينة عنك دعبول البلام.
ولكن يبقى السؤال ماهي محصلة (ماكسبناه وما تجاوزناه) من
السلبيات؟ يمكن لو باقين على (العفا...) هواية أحسن.
وأخيراً تؤيد الرواية فكرة أن أغلب الأحلام تدور في بيت
الطفولة، فها هو صبحي أبو البايسكلات، وسدرة بيت هنودي، ودكان أم علوان بياعة
المهافيف، وبيت الخوافات في الكرادة.
صحيح .. ما أثر هذه الظاهرة على تصاميم المهندس
المعماري؟ فلو وثقنا بيت الطفولة لمعمار معين، ثم قمنا بتحليل نتاجاته المعمارية،
فهل سنجد روح ذلك البيت وعناصره حاضرة في تلك التصاميم؟ لا أعلم ...
وفي منتصف الرواية تقريباً تسآءلت، هل من الممكن أن
أستمتع برواية ذات أحداث سعيدة؟ حب وزواج وونسة وتحقيق لكل الأحلام؟
أم يجب أن تتحقق المتعة مع أحداث الضيم والقهر والفتيت؟؟
وكل ذلك حاضراً في سواقي القلوب،
فالسطر الأول منها يقول:
أي أحمق، جلف القلب، ذاك الذي قرر أن الرجال لا يبكون ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق