السبت، 11 فبراير 2017

حديث الشيزلونكَ

حديث الشيزلونكَ

أطلق البعض على الراحلة زهاء حديد لقب: ملكة المنحنيات The Queen of the curves
وأنا بدوري أطلقت لقب: ملك الأقواس  The king of the arches
على المعمار رفعة الجادرجي... ليس أي أقواس وإنما الأقواس النصف دائرية.


وبعد رحلتي مع منجزاته، النظرية (كطروحات مدونة في كتبه)، والتطبيقية متحققة في مشاريعه المعمارية، فأنا في موقف واعي منه، معجب في جوانب وغير معجب في جوانب أخرى.
إحدى إعجاباتي تتعلق بمحاولته لترسيخ العلنية والواقعية بالكتابة عن الانسان بكل ما يمتلكه من صفات انسانية ايجابية وسلبية دون تجاوز البعض منها لأسباب تتعلق بإنتماء المعمار لتصنيف انساني معين مثلاً.
 والكتابة عن الآخرين وسلبياتهم سهل جداً، أما الكتابة أو الإعتراف بسلبياتنا نحن فهو موضع التحدي الأهم، والـ(نحن) تصنف الى مستويين: نحن، الفئة الإجتماعية التي ننتمي اليها، ونحن، الانسان الفرد (زيد، عَمر).
لذا نجد أن هنالك من لا يستطيع ولا يستسيغ أبداً الإعلان عن سلبيات الفئة الاجتماعية التي ينتمي اليها (بكافة تصنيفاتها المتنوعة)، وقد يستسيغ الاعلان عنها (السلبيات) داخل الفئة نعم، بينه وبين أفرادها الآخرين، ولكن الإعلان خارج الفئة لأفراد الفئات الأخرى، فهذه خيانة وإضعاف لفئته.
وهنالك من يعلن عن تلك السلبيات ولكنه يضع نفسه (كفرد) خارجاً عنها، فلا يعترف ويعلن عن ممارسته لتلك السلبيات الجماعية.
وبما أن ليس للإنسان دائماً سوى (المحاولة) والنجاح فيها مرة والفشل مرة أخرى، فالحالة السليمة هي محاولة الإعلان عن أنفسنا كأشخاص طبيعيين (خطائين) تشكلت شخصياتنا بواسطة المجتمع الذي نعيشه منذ الطفولة.

علماً أن مقومات نجاح تلك المحاولات هو التخلي أو الإنسلاخ عن الإنتماءات الإنسانية، لأن تلك السلبيات وحتى الشخصية منها قد تنال من الافراد الأخرين ضمن المجموعة، وبهذا تبدأ الضغوط الخارجية على عدم الإعلان والسكوت حتى إشعار آخر. ولعل خير الأمثلة على ما سبق، كتاب (الحلة عاصمة السخرية العراقية المُرة وذكرى الساخرين) لنوفل الجنابي، وكتاب (النجف، الذاكرة والمدينة) لزهير الجزائري، حيث عمل كل منهما على تشريح مدينته التي نشأة فيها، ولكن متى؟ 
بعد أن هاجرها وعاش سنوات طوال خارج قيودها وضغوطاتها.



وهنا يأتي دور السؤال: ولماذا الإعلان؟ ليعرف كل إنسان نفسه جيداً ويسكت، ما الداعي للإعترافات التي تضعف موقفه أمام الآخرين؟
ولعل الفائدة بمستويين أيضاً، الأول لمصلحة شخصية بحتة تحقق الراحة النفسية، يدفع الاشخاص في دول العالم مبالغ كبيرة للأطباء النفسيين من أجل أن يستمعوا لمشاعرهم وهواجسهم في مجتمع غربي يمتاز بالفردية عموماً فلا يريد أحد أن يضيع وقته في الاستماع لمشاكل الآخرين التي لا تهمه من قريب أو بعيد لذا فالطبيب النفسي هو الحل والإجور بالساعة، أما في مجتمعنا العراقي فلا يمتلك الطبيب النفسي كرسي الإعتراف (الشيزلونكَ كما يسمى في مصر) من الأصل، وليس لديه من علاج سوى قائمة طويلة من الادوية التي يجب أن تشتريها من الصيدلية التي تقع أسفل عيادته والا فلا، وفي الطرف الآخر لا نريد أن نكون ثقيلي الظل شكائين بكائين أمام الأصدقاء، لذا اعترافاتنا المكتوبة قد تكون الحل الاسلم للراحة النفسية المفقودة.


أما الفائدة الثانية للإعلان عن السلبيات فهي تصب في مصلحة المجتمع بصورة عامة، من خلال المعالجة العلمية لتلك الحالات ومسبباتها من مشاعر وأفكار، وهذا أحد أسباب تقدم المجتمعات الغربية أيضاً، فأغلب المشاكل الاجتماعية التي لديهم موجودة في مجتمعاتنا المحلية ولكن الفرق هو بتحويلهم تلك المشاكل الى قضايا معلنة مكتوبة يتم دراستها من قبل مراكز البحوث والجامعات ووضع الحلول المنطقية لها، اما (نحن) فنخفي تلك المشاكل بدفنها وعدم الإعتراف بوجودها حتى، فتبقى بدون حل عملي يخضع للتجربة والتصحيح.
القضية هي أننا نمتلك سلاح ذو حدين وهو (التماسك الإجتماعي)، فبينما ننتقد التفكك الغربي والفردانية التي يعيشونها وخروج الإبن من بيت الاسرة بعد الثامنة عشر ودار المسنين كمصير لاغلب الآباء والأمهات، نعاني نحن من القهر الإجتماعي بتأثير الآخرين علينا قسرياً، نتخلى عن الكثير من أحلامنا، نسير بمسارات لا نرغبها نتيجة لخيارات الآخرين ممن يمتلكون سلطة أسرية أو بدنية علينا.
وأختم بصفتين نمتاز بهما:
الأولى: لا نحتمل من يختلف معنا ... والحالة في سياق حديثي حالة طبيعية (كل إنسان يتضايق ممن يختلف معه) ولكن النقاش هنا فيما يترتب عليها فمرة نناقشه، ومرة نبتعد عنه ومرة نستهزئ بذلك المختلف ومرة أخرى نمنعه عن الإختلاف بالقوة ويصل الأمر الى محيه من الوجود.
والثانية: لا نحتمل من يكشف لنا أخطائنا وسلبياتنا ... وهي حالة طبيعية أيضاً ولكن النقاش في مراجعة تلك الأخطاء والتأكد من وجهة نظر الأخرين ومن ثم التغيير إذا كانت هنالك أسباب تستحق التغيير، فالانسان يستطيع تغيير كل شئ في نفسه إذا وجد الأسباب التي تستحق ذلك.
ويأتي دور كاشف الأخطاء في إستخدام كلمات مناسبة غير جارحة إذا كان المستهدف صديق أو زميل، وكلمات لا تذهب به الى المحكمة إذا كان يكشف أخطاء شخصيات أو مؤسسات حكومية.

وعن الصفتين السابقتين فالوقت مثالي لقص حكاية ينقلها لنا زهير الجزائري في كتابه، بعد أن سجله أبوه مدرسة السلام الابتدائية و(التي كانت هدفاً لرجال الدين المحافظين لأنها بنيت بطابوق حكومة عميلة غير معترف بها من قبل المراجع، ولأن معلميها يرتدون زي الأنكليز ويتكلمون بلسانهم) فيقول:
عشنا أياماً كالكوابيس حين أجبرونا في المدرسة على أن نرتدي البنطلون بدلاً من الدشداشة، رجال الدين المحافظين والملالي الذين يدرسون في الجوامع شكلوا فرقاً من طلابهم ومن صبيان الأزقة الذي لم يدخلوا المدارس، ينتظرون خروجنا من المدارس فينسلون لـ(مشاكستنا) نحن طلاب المدارس، لأننا نرتدي البنطلونات الإنكليزية، لم تنفع حمايتنا من قبل الشرطة ولا الطلاب الكبار الذين يكلفهم المدير بحمايتنا، كانوا يرددون حين نمر:
-       أفنطيزي ! أفنطيزي !

جامعين بين الأفندي والــ ..... والإنكليزي.











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق