الاثنين، 15 فبراير 2016

السفرة الأولى- نصوص لطلبة المرحلة الأولى

عندما نقرأ للمعماريين، رفعة الجادرجي، معاذ الآلوسي، الدكتور خالد السلطاني وأخيراً لموفق الطائي، نجدهم يكتبون عن مئات التجارب مع المشاريع والمباني العراقية الرائدة، كمصممين أو معاصرين أو موثقين علمياً لها.
والحقيقة المؤلمة: عن أي مشاريع سنكتب نحن، أبناء هذه الأيام ؟
كان زمنهم زمن البناء، التأسيس، الوضوح ... وزمننا زمن إهمال الماضي، وبناء جديد لا يعتمد على أي فكر معروف الملامح.
وهذا يعني أننا أمام خيارين، نكتب عن مظاهر إهمال المباني التي شيدوها وكتبوا عنها، أو أن نكتب عن المباني الجديدة.
وفي الحالتين سننتج نصوصاً سلبية، تذم وتلوم وتتحسر وهذا ما يصبح مملاً مع الوقت.
وبما إن لتلك النصوص كتابها المعروفين والمؤثرين في الساحة المعمارية، يظهر لنا بديل البحث عن الإيجابية في حياتنا المعمارية اليومية، لا ننفصل عن الواقع ولا نستمر بالبكاء أيضاً.


غالباً تتضمن السنة الدراسية في المرحلة الأولى لطلبة العمارة رحلة علمية لمعالم مدينة بغداد، وهي غالباً أيضاً تكون لمنطقة تجمع أكبر قدر ممكن من المباني القيّمة، والتي تتمثل بالمنطقة من ساحة الميدان وحتى المدرسة المستنصرية، ولم تخرج هذه السنة عن القاعدة.
ومع علمنا بإحتمالية سقوط الأمطار يومها إلا أن الغيوم صباحاً كان توحي بأنها حبابة واليفة ... وما أن نزلنا أمام جامع الحيدرخانة (مدري منو ضوجهة!)، فغسلتنا غسلة العُمر.


وضمن مشروع الذاكرة التدوينية، طلبت من الطلبة في اليوم اللاحق أن يكتبوا عن أهم موقف، فكرة أو درس خلال الرحلة، ومن ثم إنتخبت أوضحها وأنضجها ... الحقيقة كانت نصوص مثيرة وممتعة وأتمنى أن تكون مفيدة لقارئي المستقبل كما نستفيد نحن اليوم من نصوص الماضي.

وأترككم مع النصوص بأقلام كتابها:  

جعفر ستار: مشاعر
خلالَ رِحلتي إلى السراي وشارعِ المتنبيّ فالمتحف البغدادي, لم يُثِر إهتمامي أيّاً من الإنشاءات, بل الذي أثارني هو الأفكار, فالأفكار هي التي تؤسِس الإنسان, فما الإنسان إلّا كتلة مُتراكمة من الأفكار التي قد تشوبها المشاعر. فالإبداع ينشأ من الأفكار, لذلك علينا أن نحافظَ على عقلنا الإبداعي من أيّةِ شائبة قد تشوبه, فالعقلُ سلاحٌ قوي لكنّه عالي الحساسية في ذاتِ الوقت, وإنّ رؤية الأشخاص يتأثرون, يؤدي إلى قتل الإبداع, وهو لمنظرٌ مؤلم.
الذي أثارَني, الشيء الذي لاحظتُه, هو أنّ أغلبَ زُملائي –وزميلاتي- قد أُثيرت حفيظتهم لسماعِ, أو لعلّه إستراقُ السمعِ, بعض الكلام الذي قد "يجرحهم" من اناسٍ مجهولين تماماً بالنسبةِ لهم ويجهلوهم, وعلى الأغلب لن نراهم مجدداً.. فهم ذلكَ النوع من الناس الذي يمُرّ علينا مرةً في العمر.
تساءلتُ حولَ زملائي, لِمَ هذا الإنفعال؟ ولِمَ هذه المشاعر تجاه أشخاصٍ لا تعرفونَ أسماءهم حتّى! بالنسبةِ لي, لا يسعني سوى أن أتحسّر على بساطةِ الطرفين, فكلُ ما قد يؤدي إليه هذا الإنفعال هو قتل الإبداع, إذ علينا ألاّ نتأثر بأشخاصٍ لن يؤثروا علينا فعلياً, فنحن سنضّرُ أنفسنا فقط بهذه الطريقة, وستعاقُ عقولنا وطريقة تفكيرنا, ويموتُ الإبداعُ فينا.
فكما يقول مارتن لوثر كينغ:
"الظلام لا يُمكنه محي الظلام, فقط الضوء يستطيعُ فعلَ ذلك,
 الكراهية لا يمكن أن تمحي الكراهية, فقط الحُب يمكنه فِعلَ ذلك."

رويدة باسم: سياح  بوطننا
رحلتنا الجامعية لشارع المتنبي تكللت بالكثير من المواقف الغير قابلة للنسيان أن جاز التعبير, الكثير من المواقف والأحداث بودي أن أّذكرها لك أيها القارئ ولكني أحاول تلخيص أكثر ما لفت انتباهي في رحلتنا وأكثر ما علق في ذاكرتي حينها :
 نتمشى في شارع المتنبي سوق السراي مرورا ببناية القشلة و المتحف البغدادي , بنايات تجسد ثقافة العمارة الكائنة في الفترة التأريخية العثمانية في تاريخ مدينة بغداد.
شكلي وأنا طالبة متحمسة في سن الثمانية عشر عاما أتجول تحت المطر مع زميلاتي وزملائي طلاب المرحلة الأولى  نلتقط صورا بعضها تذكارية والبعض الأخر هي لغرض دراسي , لفت شكلنا الحماسي أصحاب المحال التجارية والمكتبات وبعض الباعة المتجولين وكالعادة " حجاية التنكال " كان من المتوقع سماعنا لبعض العبارات المتوقعة مثلا " سياح ذولة لو شنو " و "ناس فايخة " والمزيد من العبارات الأخرى المتوقعة وغير متوقعة منهم , لا اعلم هل انزعجوا من ضوضاء تواجدنا هناك ام استغربوا من كثرة التقاطنا لتلك الصور المميزة للابنية التاريخية والتراثية والمقاهي الاثرية وكل ما كان موجودا هناك , كان من الممتع أن نشعر بحرية وحماس يغمرنا هناك وتوق الى تجربة كل شيء ومشاهدة وتوثيق كل شيء والاستمتاع بالجو الرائع الممطر "صح تنكعنا " لكن المطر اضاف ميزة رائعة لرحلتنا هناك . ولا أظن أن أي شخص منا بأمكانه أن ينسى روعة تلك الرحلة.

رانيا كريم: ليس كل ما يلمع ذهب
في الواقع ليس كل ما هو ثمين من ذهب، الا اننا ربما اثناء التطور الفكري والحداثة فقدنا المقدرة علی تثمين ما نملك وما تم منحه لنا ولا اقصد بذلك معنويا بل ايضا مامنحته لنا الطبيعة، اضافة الی العديد من سلوكيات المجتمع التي اصبحت اليوم (مودة قديمة) ففي اثناء رحلة لقسمنا العلمي الی شارع المتنبي والمتحف البغدادي مابين الطرقات القديمة ورائحة الابنية التي اثارتها (زخات المطر) اعترف انني تشتت كثيرا ما بين التركيز علی اهداف الرحلة في ملاحظة الابنية والزخارف وما يمت للعمارة بصلة اضافة الی محاولتي في تجنب التعثر بالحفر التي امتلئت ماءا، ومابين تفكيري بالكتب التي اود اقتنائها وهوايتي الغريبة في قراءة ملامح الناس التي بدت كالابنية القديمة حين غسلها المطر الا انها متجهمة اكثر، ومع كل هذه الفوضی في داخلي، ساعدني المتحف البغدادي علی التركيز قليلا بما فيه من مشاهد تجسد جانبا من المجتمع البغدادي وطابع الناس آنذاك، ووجدت ما اثار اهتمامي قبيل الخروج من المتحف في الجزء المتعلق بتجسيد الحرف القديمة التي انقرض اغلبها في حين نادرا ما نسمع عن الحرف الاخری، ولعل هذا مرتبط بكون اغلب تلك الحرف اعتمدت بشكل او باخر علی استخدام واعادة استخدام ما هو متوفر في المجتمع آنذاك، في حين يتم استهلاكه واستبداله في الوقت الحالي، حيث ان ذلك الجزء من المتحف يجعلك تفكر بالنزعة الاستهلاكية لمجتمعات اليوم، وكمثال اثار اهتمامي كان من ضمن الحرف (خياط الفرفوري) علی الرغم من ان الفرفوري ليس ذهباً! الا انه كان هنالك حرفة خاصة به تتضمن اصلاح القطع المحطمة لكي لا يتم التخلص منها، مما جعلني افكر لربما كان لديهم سابقا معرفة بآلية الـ(recycling)  او انه نفس الدافع لتثمين الممتلكات وعدم التخلص منها الذي نتيجة لتطورنا الفكري لم نعد نجد الحيز الكافي في ادمغتنا لنفكر فيه حيث ان (option) الاستبدال هو الاكثر طلبا (حالياً) ، او ربما هو الفارق الزمني من حيث اهمية الفرفوري سابقاً وحالياً اضافة الی غلائه وغيرها، الا انني لا اراه مبررا كافيا فالفكرة هي ذاتها من حيث الاستهلاك والاستبدال غير المبرر! اما اذا فكرت بالعودة الی قوانين الوراثة والتعابر الجيني فربما اكون قد بالغت في تقدير حسنات المجتمع السابق فمجتمع اليوم هو امتداد لتلك الاجيال ، مما يجعلني افكر بانه ربما لكونه يلمع اهتموا به ، من يعلم!!

آمنة عبد الله سعدون: ما بين تسآءل وحلم
كان المطر جزءً من احداث ذلك اليوم .. اضاف اليه الكثير من المشاعر التي ستحيى كلما مررنا من منطقة القشلة .. او الاصح "بغداد القديمة" منطقة قديمة تزينت في ذلك اليوم بروح شبابية .. حماسية .. غامضة نوعاً ما .. امتزجت كل تلك الصور مع التمثال المبلل للشاعر الكبير "المتنبي"
ثم الى تلك الاروقة الممتدة .. الى افق واسع يعطيك احساس باللا نهاية .. وارتياح للنفس اثار في نفسي العديد من الاسئلة .. هل كان اهل بغداد القديمة اناس خلو من كل مشاعر الكآبة والقلق .. ام انهم تجنبوا تلك السلبية بأماكن كهذه؟
شعرت ان تلك الاماكن مريحة للنفس .. تمتلك طاقة غريبة من الايجابية .. هل كانت تستخدم لهذا الغرض؟ ام انها اماكن عامة تستخدم غرضها الوظيفي الاساسي .. ولكن طُبع فيه من طباعهم وعاداتهم البسيطة مما ترك بساطة وراحة للمكان بشكل لا يوصف
ومن بين الاشياء التي لفتت انتباهي ايضاً .. فعالية شبابية في المركز الثقافي تحت عنوان (احلامي)
كبرت احلامي .. وسعها اخذ اتساع المكان .. ليس بفضاءه! وانما بمداه
ذلك الشعار! تلك المنصة المبللة! وكل الحروف التي تبعثرت ليجمعها الحلم مرة اخرى .. فتصبح حقيقة .. كل ذلك الكوم من الاحلام المتراكمة .. والاحلام المؤجلة .. والاحلام التي حققت بعد فوات الاوان .. واحلام حققت بأوانها بعد ان فقدوا اصحابها الامل! غسلتها دموعهم قبل المطر .. وكأن المطر كان تعبيراً عن فرحهم .. اصوات علت بفخر لتحقيق احلامها .. تُركت ولن تُنسى في هذا المكان .. خالدة الى الابد تردد صدى الامل في ارجاء المركز

احياناً .. بعض المواقف الصغيرة .. وبعض الصور التي أُلتقظت وخُزنت في الذاكرة .. ترسم بداخلك اصراراً لا منتهي .. قلت في نفسي حينها: العديد منا.. يدخلون لهذا القسم بغير ارادتهم .. ساقتهم اقدارهم لهذا المكان لا اقدامهم، وانا التي اخترته بنفسي .. صارعت من اجله اثنا عشر سنة .. اصارع بحلمي مع نفسي ومع الاخرين .. احياناً كانت تجتاحني احلام بعضهم .. ولكنني بقيت متمسكة بأحلامي .. وسأبقى.

ألق شاكر: خرائب الكريستال
         لم يتبق من ملامح بغداد القديمة سوى ركام الماضي - الذي يجثو على ركبتيه  بعد ان ارهقه  الاهمال والظروف العصيبة -   والذي تجسدة البيوت البغدادية المتهرئة التي تظلل الازقة الضيقة بشناشيلها العريقة، وتلك الجدران التي دوت بحكايا عصور مضت لو حكت لافصحت لنا ولو قليلا عما مرت به !
بغداد حبيبة القلوب اضحت – كما رأيتها في ذلك اليوم – شبح مبهم الملامح لحضارة عظيمة تسير نحو السبات .. قد خسرت ما تبقى لها من روح مع خسارة اغلب مبانيها وشوارعها التراثية العريقه التي اما اندثرت او لامستها رياح التجديد الشكلي المتهرئ !
تركت من حولي لاذرَ عيناي في زاوية النافذة التي كانت بمسير الحافلة تمرر عبرها مشاهد للمعالم التي من المفترض انها تمثل قلب بغداد العاصمة  ، وما بين دمدمات الهواجس وتصادم الافكار, انطلقت تلك الفتاة الصغيرة الفضولية التي تسكن اجزءا من قلبي وعقلي لتخاطب بغداد (ام الدنيا في نظري) : (( أانتِ جميلة المدن العربية ؟؟ أانتِ فخر وعز العرب ؟؟ أانتِ من تغنَّو بها وكتبوا لاجلها الابيات و القصائد الطِوال ؟؟ أانتِ قبلة العلماء والباحثين؟؟ ماذا حل بكِ ؟؟ ))
اكتفت باجابتي بصمت عميق ومحزن ، لم يكسر الصمت والركود الا قطرات المطر التي غسلت ازقتها وشوارعها ليسرع كل من كان في الشارع ليرتموا في احضان مبانيها التي تشبعت  بدفئ الماضي كانها كانت تقول لي بصمتها عن مدى تزاحم المشاعر داخلها .. كيف ان الناس ارتموا بين اضلعها الا انهم لو اتيحت لهم الفرصة لهجروها وهي امهم الحنون التي لن يجدوا مثيلا لها ، الا انني تمنيت لو انها تجيبني بصوت مرتفع مدوي  .. تمنيت لوانها ترد بكلمة واحدة كيف تحولت من مركز للثقافة يهوي اليها طلاب العلم من كل حدب وصوب الى بقايا مدينة يهجرها الباحثون والعلماء ليرحلوا بعيدا عن معترك الحياة فيها ! لربما كانت في الكتب المبعثرة في المحال والتي اسمرت اوراقها و كانت شواهد للعصور اجابات على اسئلتي !
لا ادري ياجميلتي يا بغداد .. أانتِ زهرة يصيبها الذبول ؟؟ ام ان هذه نكبة ما قبل النهضة ؟! وما بين مؤيد ومعارض لما يدور، من يدري ! فلربما يكون رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب !! ولربما الصواب في عكس المعادلة !

      أتساءل انا وقد يتساءل الكثير فيما لو آن الاوان لمجتمعنا الذي يسكننا ولا نسكنه ان ينال حظه في بناء امجاده من جديد ، لنكون نحن – شباب الغد – روحا تبث الحياة في ازقة بغداد ونعيد لكل حجر حكايته , حكاية تبدأ حين تدق القشلة من جديد " رغم كل شئ "!! 


غدير عبد الباري: متصرفية بغداد
بناية المتصرفية ... لم أسمع بها من قبل ولم أزرها وعند رؤيتي لها لأول مرة في سفرتنا كانت بناية مهدمة أو أشبه بالمحروقة أو ربما كانت حقاً محروقة ... لم تكن بناية ، كانت مجرد أسوار وسلًم عند الدخول .. لم أعرف شيئاً عن قيمتها التأريخية ولا لأي فترة زمنية تعود ..لم أسأل الأستاذ عنها حتى أسمها لم أعرفه في وقتها .
كانت زيارتي لها مجرد التقاط صور لأسوارٍ مهدمة .
كان من المهم أن أسأل عن هذه البناية وماذا كانت تمثل ..قصرٌ..مسجدٌ..أم مجرد ساحة كبيرة محاطة بأسوار.. ولمَ هكذا مهدمة ؟
الجو الممطر في سفرتنا أتعب شكل البناية أكثر فأكثر ..كانت المياه تنزل من اعلى جدرانها ..كأنها تأكلها ..
تمنيت لو عرفت ماذا كانت تمثل هذه البناية ..
بعد بحثي عنها علمت ..
كان أول متصرف لبغداد السيد رشيد خوجة. وقد استمر في وظيفته حتى الثالث عشر من ايلول سنة 1921 وذلك بسبب موقفه المخالف من الإستفتاء الذي حصل على ملوكية فيصل في العراق .وقد كانت متصرفية بغداد ممثلاً عن الحركة الوطينة لوجود فئة مثقفة  وواسعة فيها ، وذات تأثير كبير .
في التاسع من شهر نيسان سنة 1926 داهم بغداد فيضان كبير في مياه نهر دجلة لم تعهد مثله بغداد منذ سنوات وقبلها بأسبوع كانت مياه نهر الفرات قد فاضت أيضاً. وأدى ذلك الفيضان إلى غرق مناطق عديدة من بغداد ، وكان من بين ذلك متصرفية بغداد وقصر الملك فيصل الاول .

كان السبب في غرق المناطق هو أن مدير المزرعة الملكية قام بفتح أحد القناطر لسقي مزرعة القطن الملكية ففتح بوابة الجانب الايسر ولم يستطع إيقاف تدفق المياه  بشكل كبير ،وقد أحيل مدير المزرعة الملكية إلى محكمة جزاء الاعظمية بناءاً على طلب متصرف بغداد آنذاك (ناجي شوكت) .









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق